أحكي لكم قصة عبد الرحمن الجبرتي، ليس المؤرخ المصري المعروف، فهذا قد كتب عنه الكثيرون، بل هو جبرتي آخر، فإليكم قصته!
المشهد الأول: سجن الزقازيق العمومي:
فجر يوم الاثنين 25 يونيو 2018، علا صوت تلك الأحذية المقيتة في عنبر الدواعي داخل السجن، ليتوقف أمام زنزانة عبدالرحمن الانفرادية، لم يكن عبد الرحمن يعلم أن فجر هذه الليلة سيشهد مولده الجديد، أخبروه أن “أحمد عاطف” رئيس مباحث السجن يريد محادثته، لم يكن عبد الرحمن يعلم أن الحكم بإعدامه قد صار نهائياً واجب النفاذ، فلم يخبره أحد بهذا ولم يعطوا له فرصة لوداع خطيبته أو أسرته، ولكنه توقع أنه لن يدخل تلك الزنزانة التى يغادرها مرة أخرى.
طلب منهم أن يلقي السلام على إخوته في الزنازين الأخرى ولكنهم رفضوا، وأخذوه إلى غرفة الإعدام، وهناك كان شخص يراقب في صمت ودهشة ما يحدث؛ فالموقف بالنسبة له جديد وما سيقال فيه لم يسمعه من قبل في هذه الغرفة، ومنه تناقلت القصة.. قصة عبدالرحمن إبراهيم محمود، والشهير بـ “عبدالرحمن الجبرتي”.
المشهد الثاني: اعتصام رابعة العدوية
هناك بين الجموع كان عبدالرحمن الجبرتي يجلس بين الجموع تبهره الخطب والكلمات، يصدق أن هناك قيادات تعمل للنصر وأنه عند مجىء العصر سيرجع الرئيس إلى القصر، كان الشاب العشريني أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وكان شديد الإيمان بهم، شكل مع زملاء له مجموعة شبابية تشبه مجموعات التراس كرة القدم، ولكن في هذه المرة كان التشكيل للتعبير عن أنفسهم وما بداخلها من حماسة الشباب، كان اسم المجموعة التراس الأحرار، وعلى وقع هتافات “سلميتنا أقوى من الرصاص” صدق عبد الرحمن الوعود القائلة باستحالة فض رابعة، ولكن مشاهد دماء الساجدين في مذبحة الحرس الجمهوري ثم مذبحة المنصة، أبكت قلب الشاب النقي الرقيق، فرجا يومها أن يصير مثل مَن رحلوا بين يديه من الأنقياء مبتسمين، فارتدى حلة كتب عليها “الجبرتي مشروع شهيد”.
أتى الفض وأسقط رصاص الأوغاد أوراق توت الوعود الزائفة، ولكن ليته فعل هذا وفقط ولكنه اقتلع أيضاً أصدقاءنا وأحبابنا ورفقاءنا ورفقاء عبدالرحمن، لتغيب شمس ابتسامة عبدالرحمن.
مظاهرات ومسيرات بمدينة السويس استمرت لشهور من بعد الفض، لم يكن من الصعب تمييز عبدالرحمن بهتافه في بعضها، ولم يكن من الصعب قراءة عيونه الحزينة، تقل أعداد المتظاهرين بفعل ضربات الأمن وبفعل غياب الخطة وتمسك الفسدة بمناصبهم، لتبدأ أنباء الانتهاكات والاعتداءات الجنسية على المعتقلين والمعتقلات في التصاعد.
المشهد الثالث: مارس 2015
مجموعة من الرجال الملثمين يستقلون سيارة (فيرنا) يحاولون اغتيال أحد سفاحي النظام وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم أثناء وجوده بـ(فيلته) في مدينة السويس، اشتباك قصير مع قوة الشرطة المكلفة بالتأمين بضاحية الملاحة بمدينة السويس، تقول محاضر التحقيق إن مطاردة بدأت بعدها بقيادة الرائد “محمد سويلم” رئيس مباحث الجناين فى منطقة الألبان الجديدة بالقطاع الريفى وقتها، قتل في المطاردة أحد الملثمين وقتل ضابط المباحث، وتعددت الإصابات، ولكن دون الإمساك بأحد، لم يعرف أحد مَن وراء الاستهداف، ولكن سموا فاعليه بـ”الإرهابيين”؛ ففي مصر الرواية التى تُعتمد فقط هي رواية أعداء الحياة.
انطلقت ميلشيات النظام بعدها كالضباع المسعورة محاولة الحفاظ على كراسيها الفانية، لتشهد محافظة السويس موجة من الاعتقالات العشوائية والتعذيب، وكان من ضمن المعتقلين “عبدالرحمن”إذ اقتحموا منزله واعتقلوه وفق الأوراق بتاريخ 26 مارس 2015، ليُتهم بمجموعة من القضايا، ومنها قضية محاولة اغتيال وزير الداخلية برقم 119 لسنة 2016 عسكرية السويس.
المشهد الرابع: يجلس عبدالرحمن كممثل عن الشعب في قفص محاكمة ميلشيات النظام
لم يكن يهتم بالقضاة أو الحاضرين فقط كانت عيناه ترقب في حب خطيبته وأسرته، كان يطمئنهم بعينيه مبتسماً لكي يعينهم على قسوة قد تنال آذانهم من حكم الطغاة.
في السجن قضى عبدالرحمن جل أوقاته في حفظ القرآن وتدبره، يقول عنه رفقاء السجن إنه كان يعلم أنه سيأتى وقت ويلقى الله، وكان يمزح معهم هل سنتزوج من الحور العين أولاً أم سنتحرر من هذا السجن ونجاهد في سبيل الله ونحرر المسجد الأقصى أولاً؟
يقول عنه أحد رفقائه: رحلوني لعنبر عبدالرحمن في سجن الزقازيق في فترة سجن عبدالرحمن الأولى قبل الحكم بالإعدام، كان دائماً مبتسماً ورجلاً بمعنى الكلمة في أخلاقه واحترامه وضحكته وغيرته على دينه، لم يسمح لي زبانية السجن عند نقلي بأخذ ملابسي ومقتنياتي، فاستقبلني عبدالرحمن بابتسامة حبيبة وأخرج لي بعض ملابسه ومنشفة وقام باعطائها لي. السجن وضيقه يفرز معادن الرجال، وكان عبدالرحمن رجل عنده دين وأخلاق، بصراحة هو شهم وجدع ورجل.
بتاريخ 19 أكتوبر 2017، أحالت محكمة جنايات السويس العسكرية عبد الرحمن للمفتي، والذي وافق على الإعدام بتاريخ 14 نوفمبر 2017، ليتأكد الحكم في 11 ديسمبر 2017، لتتبقى مرحلة الطعن العسكري والذي لم يعلم عبد الرحمن برفضها إلا عند استدعائه لمولده الجديد.
المشهد الخامس: يصل عبدالرحمن إلى غرفة الإعدام
ويعتلي المكان المخصص لعمليات تنفيذ الإعدام، لم يكن يعلم مما يخاف المجرمون وهو الأسير بأعينهم وهم الأحرار، سأل عبدالرحمن ربه التثبيت وحسن اللقاء، وأنقل ها هنا نص ما حدث:
تقدم له شيخ قد أتوا به من وزارة الأوقاف ليقول له: قل لا إله إلا الله.
رد عليه عبدالرحمن: بل قولها أنت، “أنتوا متعرفوش حاجه عن ربنا وانتو بكده بتنفذوا حكم ظلم وبتساعدو الطاغوت السيسي وده حرام”.
قال موظف الأوقاف: تُب.
فرد عبدالرحمن: “توبوا انتوا الأول”، ثم التفت برأسه إلى رئيس المباحث أحمد وقال له “ده حرام يا أحمد، وظلم وأنتوا بنتصروا الطاغوت السيسي مش ربنا، وربنا هينتقم منك” ثم أخذ يبث فيهم كلماته الأخيرة حتى لا يكون لهم حجة أمام الله يوم القصاص الحق.
أصدر الأمر بتنفيذ الحكم، ابتسم أحمد ودعا لأحبته ونطق بالشهادة…
وأشرقت شمس عبدالرحمن الجبرتي.
وفي أحد عنابر السجن أرجع أحدهم لأصدقائه نظارة عبدالرحمن وخاتمه وملابسه.
وتلقت خطيبته ووالدته والأسرة خبر الإعدام، ليزفه أحبته إلى القبر بالتكبير.
بلغ خبره الآفاق فيحج عنه أحد المجهولين داعياً ربه لعبده.
المشهد السادس والأخير: يشرق فجر يوم جديد
فجر يرافقه صوت ينبعث من بين شواهد قبور تلك البقعة الساكنة من الأرض، هناك وأمام قبر كُتب على شاهده “أبو قلب طيب” كان يجلس طفل صغير ينصت بانتباه لأبيه وهو يقص عليه قصة عبدالرحمن أمام شاهد قبره، تراقب عينا الطفل مقلتي أبيه وهما تلمعان مع كل جملة، فهاهنا معانٍ للحب والحزن والعزة، وفي القصة معالم لطريق للدفع بين الحق والباطل.
يحتضن الأب كفيّ ابنه في رقة وعزم قائلاً: أشهد الله أمامك يا بني، أن عبدالرحمن قد عاش مجاهداً صابراً محتسباً، عاش في سبيله مبتغياً إعلاء كلمة الحق، وكان دائماً يقول “طول ما لسه فيّ نفس يبقى لسه لي دور ورسالة لازم أتمها على أكمل وجه”.
ابتسم الابن وقد التمعت عيناه بصدق الرسالة.
وختاماً إلى كل حزين، لا أجد ما أقوله لكم إلا قول الله عز وجل لنبيه في كتابه الكريم:
“فاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا”
والقصة مبتنتهيش
………………………………
هيثم غنيم
نشرت بتاريخ 28 نوفمبر 2018